التكاثر: رعبا من الموت جوعا “أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ”
ما الذى يدفع شخصا ما (دون استثناء نفسى) أن يجمع أكثر من حاجته للأكل والشرب والسكن وبعض الترفية الممكن فى الزمن المتاح، بالإضافة لما يتـيسر له من إمكانية بعض الفعل الحر فى مساحة مناسبة مهما ضاقت.؟
إن الجمع هو بهدف التأمين ضد حوادث الزمن ومفاجآته، قد يكون ذلك مقبولا فى حدود أن يجمع هذا الشخص ضعف ما يحتاج، أو بضعة أضعاف ما يحتاج أو مائة ضعف ما يحتاج. ليكن! لكن ما الذى يجعله يجمع أكثر من ذلك: ألف ضعف، وألف ألف ضعف، ثم أكثر فأكثر وأكثر، مما أعجز عن مجرد تخيل أصفاره على الورق؟
من عمق معين يصعب الفصل بين البحث عن الغذاء و الحرص على توفيره لإرواء غريزة الجوع، وبين البحث عن الأمن، إن عدم الثقة الأساسى Basic mistrust يمثل الجذر الأعمق لكثير من السلوك الاغترابى المتعلق بالجمع المتمادى بغير نهاية.
من الخبرة المهنية والتقمص
بدأ انتباهى إلى هذا الاحتمال أثناء تأملى فى ظاهرةٍ يصاب بها المريض الوسواسى، نسميها غالبا الجمع التكرارى القهرى، كما يصاب المريض الفصامى بعَرَض مواز نسميه عرض “التخزين” Hoarding. المريض الوسواسى المصاب بالجمع التكرارى لا يكف عن الجمع والتخزين لنوع معين من الأشياء، مع أنه يوقن أنها لا لزوم لها، وأنه لا يحتاجها، وأنه لن يستعملها، وقد يكون ما يجمع نوعا واحدا يركز عليه، وقد يكون أكثر من نوع. مثل هذا المريض يعرف جيدا خطأ وشذوذ ما يفعل، لكن بصيرته لا تنفعه فى أن يمتنع عن هذا الفعل القهرى مهما قاوم، فهو دائما أبدا يعجز عن إيقافه. المريض الفصامى تتجلى فيه ما يكافئ هذه الظاهرة، ولكن دون بصيرة ودون مقاومة الفصامى المصاب بعرض التخزين قد يجمع كل شئ دون تمييز، ودون سبب واضح، ودون فائدة عادة، فهو قد يجمع غطاء زجاجة كوكاكولا، مع فردة حذاء قديمة، مع فازة ثمينة، مع صفحات ممزقة من صحيفة مهملة، مع صندوق بلاستك فارغ، مع قطعة جبن جافة، ثم إنه – خاصة إذا كان من نوع الفصامى المتفسخ – قد يجمع كل ذلك ويخزنه بطريقة عشوائية فوضوية تمتد من تحت السرير إلى فوق الصوان، ومن وراء الباب إلى جوار المدفأة. المهم أن هذا الفصامى قد يصاب بهياج عارم إذا ما اقترب أحد من حجرته مثلا للتخلص من بعض ما يشوهها، أو حتى مما تعفن فيها، وهو قد يثور نفس الثورة إذا ما حاول أحدهم مجرد تغيير موضع شىء مما جمعه وخزّنه.
فى كثير من هذه الحالات نكتشف عمق “عدم الأمان”، ونحن نكتشف عدم الثقة والرعب المتجدد أبدا، رعبا كامناً لحوحاًًً ليس من عدوِّ مهاجمٍ بذاته، وإنما هو خوف من نفاد ما يملك من زاد (أو ما يعادله)، مما يترتب عليه تصوره أنه إذا ما نقص ما عنده أى نقصان، ولو كان رمزيا، فهو الهلاك، ومن ثَمَّ تتقِد بداخله معايشة باطنية، تنذره طول الوقت “من الموت جوعا!!”.
هل يمكن أن يكون وراء الاستحواذ على السلطة وجمع المال بلا نهاية عند الأسوياء، نفس الرعب من الموت جوعا، تماما مثل الوسواسى أو الفصامى؟
[1] – مجلة سطور: (عدد يونيو 2004)