قالو الصلاة خير من النوم، قال جربنا ده، وجربنا ده
قالو الصلاة خير من النوم، قال جربنا ده، وجربنا ده
هذا المثل جرئ خطير، وقد يـُـفهم خطأ على أنه استهانة بالصلاة، أو تهوينا من النداء الجميل فى آذان الفجر حتى يهب الناس إلى الصلاة ، حيث ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها، وكل هذا استعجال واختزال لما قد يعنيه المثل من عمق آخر، فالمثل لا يقال فقط لمحتواه، ولكن للفكرة الأساسية من ورائه.
فى هذا المثل دعوة شعبية جريئة وموضوعية بعدم التسليم لكل ما يقال، حتى لو قيل فى سياق دينى، فعندما ينادى المؤذن أن الصلاة خير من النوم، هو لا يقول جملة خبرية، وإنما هو يدعوك أن تلقى ربك، وأن تفتتح يومك بهذه الصلاة ، لترى بنفسك أنها خير من النوم ، فهذا ما كنا نتعلمه فى الثانوى عن الأسلوب الخـَـبـَـرى الذى يخرج من وظيفة الخبر إلى وظيفة الإنشاء ، ليؤدى وظيفة الأمر، أو السؤال أو الطلب، أما الاستسلام للكلام المثبت وكأنه حقيقة للبلاغ لا أكثر، فهذا دون الوعى البشرى اليقظ فى كل شىء حتى فى الدعوة إلى البكور، وفضل عبادة البكور.
وعامة الناس هنا لم تتورع أن تعلن من خلال هذا المثل: أن كل شئ قابل للتحقق والتجريب، وهذا هو التفكير العلمى الحقيقى، أو بتعبير أدق هو التفكير الفرضى الاستنتاجى، أن كل المقولات هى فروض تحتاج تناولا نقديا، ومن ثم تثبت أو لا تثبت. لقد ابتعدنا عن كل ذلك كل البعد، وعادت المسلمات هى الأصل، وأصبح مجرد الرد على رئيس، أو حتى الاستفسار منه عن إيضاح هو جريمة فى حقه، إن لم يكن فى حق النظام، إن لم يصل إلى تهمة الشروع فى قلب النظام، ولم يقتصر الأمر على التسليم لمقولات رئيس سياسى أو حتى إدارى، أو حتى فتوى دينية ، بل امتد ليشمل بعض الوثقانية (الدوجما) فى المناهج العلمية، حيث يذهب بعض العلماء إلى قصر المنهج العلمى على مفهوم مختزل، وليكن التجريب والمشاهدة والاستنتاج، دون غيره، وفرق بين التجريب كما يذكره المثل الشعبى القادر، وبين التجريب كما يحكمه العالم الملتزم المغلق، فالتجربة الإنسانية لا تجرى فى معمل مغلق، ويكاد لا يمكن مقارنتها بالمعنى الدقيق للمقارنة، بل ويكاد لا يمكن إعادتها من عمق بذاته، لأن الحياة تتحرك، والدنيا تتغير ولا شىء يعيد نفسه بدقة تسمح بالمقارنة كما يدعى أهل التجريب المغلق.
ثم إن هذا المثل لم يخطرنا بنتيجة التجربة ، فهو لم يقل: أنهم جربوا الصلاة وجربوا النوم فوجدوا أن النوم أفضل، بل تركها مفتوحة، والوعى الشعبى فى التقاط المعنى هو بنفس ذكاء الوعى الشعبى فى تخليق المثل، ومع ذلك فلا يستطيع أحد أن يلوم قائل المثل ، إلا أن يكون هو الذى استقبله إذ صنع نتيجته أنه جرب كلا من الاحتمالين ووجد النتيجة فى صالح النوم.
ثم إنه حتى لو وجد النتيجة فى صالح النوم، وثبت أن النوم أفضل (أخـْـيـَـر)، فهى نتيجة تسمح بافتراضات جديدة ، بمعنى أنها لا يمكن تعميمها، فثـَـمَّ مجرب أخر، قد جرب اختبار هذا القول ووجد عكس ذلك، أى وجد أن الصلاة فعلا أَخـْـيـَـر من النوم، بل إن المجرب الذى وجد أن النوم أفضل، يمكن أن يستفيد حين يتساءل لم تناقضت تجربته مع الشائع، ومع الدعوة الكريمة للصلاة، والدعوة الصحية للبكور، وقد يكتشف أن صلاته ليست كما ينبغى، وأن علاقته بالبكور ناقصة، وبدلا من أن يتمادى – من واقع تجربة واحدة قاصرة وخاصة- فى التشكيك فيما “قالوه” يمكن أن تكون هذه التجربة التى انتهت إلى أن النوم أفضل، هى فرضٌ جديد، يدفعه إلى مراجعة نفسه، ليعرف وظيفة النوم لديه، ووظيفة الصلاة، وطبيعة كلٍّ، وبأى مقياس يقيس ما هو خـَـيـْـرٌ وما هو أَخـْـيـَـرْ، وبالتالى يعدل من نوعية نومه ووظيفته، وأيضا من نوعية صلاته ووظيفتها، ثم يعيد التجربة، أليست هذه هى الحياة البشرية الشريفة؟
ثم نتذكر أن النداء الكريم بأن ”الصلاة خير من النوم” ليس به معنى أن النوم شر، بل هو خير فعلا، لكن هناك ما هو أخير منه فى هذا الوقت بالذات.