عن تطور أدوات العصر
“تطور أدوات العصر سواء من حيث وسائل الاتصال فائقة الحداثة أو الانترنت والفضائيات” ففى تقديرى أنها التهديد المعاصر الأوْلى بالانتباه عامة، وفى تقديرى أيضا أنها تهدد مسيرة الجنس البشرى كله وليس فقط مؤسسة الأسرة أو شباب المراهقين، وهى أخطر على تطور الإنسان من اختراع الكتابة التى أزاحت الحضارة الشفاهية بغير وجهه حق، وهى أخطر أيضا من طغيان نصف المخ الكروى الأيسر النصف المختص بالمنطق والتعليل الخطى والحساب، على النصف الآخر المختص بالترابط النغمى والتشكيلى والشمولى، الأمر الذى مَيـْكـَنَ الإنسان وأدى إلى كل مضاعفات الاغتراب المعاصر.
إن هذه النقلة التكنولوجية شبه التواصيلة الأحدث تبدو بالغة الروعة فائقة القدرة، تماما مثلما حدث حين ظهرت اللغة التى ميزت الإنسان حتى سمى أنه “حيوان ناطق”، فراح يفتخر بتطور اللغة عنده دون سائر الأحياء، حتى نسى كل أفضال الأمخاخ التى سبقته فى الأحياء قبله، وأهمل كل قنوات التواصل عدا اللغة اللفظية المرموزة، فكانت النتيجة أنه أهمل “الإدراك” لحساب التفكير التجريدى، وأهمل “الوجدان” الكلى لحساب العواطف وأهمل الإبداع لحساب الإنجاز الكمى.
على نفس القياس فإن ظهور هذه الآليات الحديثة تبدو لى أنه نقلة بالغة الإبهار ولكنها تكاد تلغى كل ما قبلها حتى أصبحت الكلمات المكتوبة أو المسموعة عبرها بديلا عن التواصل على المستويات الأعمق والأهم لتأنيس الإنسان ومساعدته على مواصلة التطور باستيعاب كل برامج الحياة متكاملة.
التواصل بين البشر يتم على قنوات متعددة أهمها بلغة النيوربيولوجيا الأحدث هو ما يسمى الوعى البينشخصى Interpersonal Consciousness ثم الوعى الجمعى Collective Consciousness وهذا أو ذاك يتم عبر قنوات التواصل الحيوى المباشر وهو غير قنوات اللغة المنطوقة أو المكتوبة أو المفهومية عامة، وهذا الإلغاء لتواصل الوعى المباشر هو خطر جسيم نجت منه الأحياء الأخرى التى نسميها “أدنى”، مع أنها أقل عرضة للانقراض حاليا مما يتعرض له النوع البشرى بسبب هذا الخلل فى استعمال الوسائل.
هذه التقنيات الحديثة أصبحت الوسيلة الطاغية القادرة على تهميش الوعى البشرى بشكل متزايد، بما يترتب على ذلك من ضمور قنوات التواصل عبر مستويات الوعى المختلفة، لتحل محلها هذه القناة التكنولوجية الأحدث التى تحيل البشر إلى أدوات وآلات أكثر منهم أحياء ومبدعين وهى تـُحل الرموز محل الغموض التواصلى الرائع الذى يحافظ على بقاء أسراب الطيور وهى تطير معا، وتبقى على حيوية قطعان الفيلة وهى تحتمى ببعضها البعض…الخ
المصيبة أن هذا الخطأ التطورى يبدأ من سن مبكرة تماما عند الأطفال ربما من سن الثالثة أو قبلها، وهو يتمادى ويتطور ليبلغ قمما متتالية عند المراهقيين، ثم يتمادى بعد ذلك حسب تنوع مسار الفئات المختلفة
فالقضية لم تعد تهديد العلاقات بين الابناء وأهلهم ولا حتى بين الاصدقاء وبعضهم البعض، بل إن المشكلة أصبحت ضمور كل قنوات التواصل بين البشر فيما عدا هذه الأسلاك واللا أسلاك (حيث التواصل اللاسلكى أكثر) التى أصبحت وصية على كل ما عدّاها.
وفى رأيى أنه إن لم ينتبه البشر بكل مسئولية وثورية إلى ما يترتب على ذلك من احتمال انقراض فعلى لهذا الكائن الرائع فسوف نلحق بسرعة قافلة كل الأحياء التى انقرضت حين لم تستوعب برامج التطور بتناسب مسئول.
كل هذا لا يعنى أننى أنكر الإيجابيات التى أضافتها هذا الأدوات الحديثة التى جعلت الموسوعية المعلوماتية فى متناول كل من يتقن أبجدية هذه اللغة الأحدث.