fbpx

“زى‏ ‏الطواحين‏ ‏إن‏ ‏بطلت‏ ‏تلحسها‏ ‏الكلاب‏”(2)

"‏أنا‏ ‏أعمل‏ (‏هكذا‏) ‏طول‏ ‏الوقت‏، ‏إذن‏ ‏أنا‏ ‏موجود‏"‏

“زى‏ ‏الطواحين‏ ‏إن‏ ‏بطلت‏ ‏تلحسها‏ ‏الكلاب‏”(2)

“‏أنا‏ ‏أعمل‏ (‏هكذا‏) ‏طول‏ ‏الوقت‏، ‏إذن‏ ‏أنا‏ ‏موجود‏”‏

ومن‏ ‏هنا‏ ‏فإن‏ ‏التوقف‏ ‏عن‏ ‏العمل – والأمر كذلك -‏ ‏إنما‏ ‏يعنى ‏اختلال‏ ‏الكينونة‏ ‏حتى ‏يفقد‏ ‏الوجود‏ ‏معناه‏ ‏وغايته وغائيته‏، ‏فيفقد‏ ‏الشخص‏ ‏هويته‏ ‏إذا‏ ‏هو‏ ‏توقف‏ ‏فعلا‏، ‏أو‏ ‏تهدد‏ ‏بذلك‏، ‏إذ‏ ‏قد‏ ‏يتصور‏ ‏أن‏ ‏التوقف‏ ‏عن‏ ‏العمل‏ ‏هو‏ ‏توقف‏ ‏عن‏ ‏الحياة‏، ‏أى ‏توقف‏ ‏عن‏ ‏الوجود‏، ‏لأن‏ ‏ذلك‏ ‏يتضمن‏ – ‏فى ‏عمق‏ ما من ‏الوعى – ‏أنه‏ ‏لم‏ ‏يعد‏ ‏مرغوبا‏ ‏فيه‏  ‏أو‏ “أنهم” ‏لم‏ ‏يعودوا‏ ‏يحتاجون‏ ‏إليه‏، (‏وبالبلدى “لم‏ ‏يعد‏ ‏له‏ ‏لازمه”) ‏وكأن‏ ‏قيمته‏ ‏كلها‏ ‏مرتبطه‏ ‏بأن‏ “تدور‏ ‏رحاه‏ ‏كما‏ ‏تدور‏ ‏رحى ‏الطاحونة‏ ‏ليل‏ ‏نهار”.‏

الوعى ‏الشعبى ‏يرسم‏ ‏هذه‏ ‏الصورة‏ فى هذا المثل ‏بدقة‏ ‏متناهية‏، ‏فهو‏ ‏يقرر‏: ‏إن‏ ‏إنهيار‏ ‏قيمة‏ ‏الطواحين‏ ‏حين‏ ‏تتوقف‏ ‏لا‏ ‏يعلن‏ ‏عجزها‏ ‏عن‏ ‏الطحين‏ ‏فحسب‏، ‏بل‏ ‏يجعلها‏ ‏عرضه‏ “للنجاسة” ‏والإهانة‏ ‏والاستهانة‏، ‏وهذا‏ ‏معنى “يلحسها‏ ‏الكلاب”، ‏فالكلاب‏ ‏الجائعة‏ ‏عادة‏  ‏تلحس‏ ‏بقايا‏ ‏الدقيق‏ ‏العالق‏ ‏على ‏الطاحونة‏ ‏حين‏ ‏تتوقف‏، ‏والمغزى ‏شديد‏ ‏الدلالة‏ ‏لما‏ ‏يصاحب‏ ‏مفهوم‏ “لعق‏ ‏الكلب” ‏دينيا‏ ‏و‏ ‏شعبيا‏.‏

ولو‏ ‏أننا‏ ‏تصورنا‏ ‏ما‏ ‏يحدث‏ ‏لمثل‏ ‏هذا‏ ‏الشخص‏ ‏الذى ‏يواصل‏ ‏العمل‏ (‏مثل‏ ‏الطاحونة‏ ‏الشغاله‏) ‏وهو‏ ‏ينقلب‏ ‏ليواجه‏ ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏الضياع‏ ‏والهوان‏ ‏حين‏ ‏يتوقف‏، ‏إذن‏ ‏لأمكن‏ ‏أن‏ ‏ندرك‏ ‏أى ‏قهر‏ ‏اغترابى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يمثله‏ ‏العمل‏ ‏لهذا‏ ‏الشخص‏، مهما كان مغتربا، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت- تبعا لما جاء بالمثل-‏ ‏أى ‏عدمٍ يمكن أن ‏يلحق به‏ ‏لو‏ ‏توقف‏ ‏العمل ليجد الخواء ينتظره، فالمهانة والإهانة.

ولا‏ ‏يقتصر‏ ‏هذا‏ ‏المعنى ‏على ‏العمل‏، ‏ ‏فإن‏ ‏ثم ‏منظور‏ ‏مكافىء‏ ‏كمّى ‏تراكمّى ‏نقابله‏ ‏فى مجالات‏ ‏أخرى: ‏مثل‏ ‏سلوك‏ ‏جمع‏ ‏المال‏،  ‏أو‏ ‏عبادة‏ ‏السلطة‏، ‏أو‏ ‏حتى ‏جمع‏ ‏المعلومات‏ ‏موسوعيا‏ ‏دون‏ ‏إعادة‏ ‏تنظيمها‏، ‏أو‏ ‏الإفادة‏ ‏منها‏، ‏أو تشكيلها إبداعاً، كل‏ ‏هذا‏ ‏السلوك‏ ‏القهرى ‏لابد‏ ‏وأنه‏ ‏يمثل‏ ‏التوقف‏ ‏عنه‏ ‏هذا‏ ‏الرعب‏ ‏بالإهانة‏ ‏والمهانة‏ ‏والخواء‏. ولا أحد منهم ينتبه إلى ذلك.

من هنا يصبح‏ ‏التوقف‏ ‏للتأمل‏ ‏و‏ ‏المراجعة‏ ‏جزءا‏ ‏لا‏ ‏يتجزأ‏ ‏من‏ ‏إعادة‏ ‏الاختيار‏ ‏للتأكد‏ ‏من‏ ‏تـَوَاصُل‏ ‏الاستمرار‏، ‏أو‏ ‏احتمال‏ ‏التغير‏، ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏للحياة‏ ‏أن‏ ‏تتكاثر‏ ‏نوعيا‏ ‏بصفة‏ ‏مستمرة؟ (وهذا ما يكمن فى ما يقدمه منظور الإيقاعحيوى المستمر).

إننا‏ ‏بهذا‏ ‏التفسير‏ ‏قد‏ ‏نلقى ‏إلى ‏الناس المنهكين‏ ‏رعبا‏ ‏أكبر‏، ‏فى ‏مجتمع‏ ‏محدود‏ ‏الفرص‏ ‏ساكن‏ ‏المسار‏، ‏ومع‏ ‏ذلك‏ ‏فالوعى ‏الشعبى ‏يلقى ‏فى ‏وجهنا‏ ‏بالحقيقة عارية‏.‏

كل هذا يقابله على الناحية الأخرى عـَرَض التوقف عن العمل لمدة طويلة نسبيا، وفى سن مبكرة نسبيا دون سبب صحى معين، ليحل محل العمل، اغتراب أكثر خطورة بل وأمراضا مثل الانشغال بالأعراض والشكاوى المتنوعة وخاصة أعراض الجسدنة، وفرط التفكير، والاهتمامات الذاتوية الفرعية، بل وأحيانا يحل محل العمل مداومة التردد على الأطباء ثم الأطباء النفسيين بالذات، وكأن العلاج أصبح عملا فى ذاته، وفى هذه الحالة قد تكون النصيحة العلاجية المباشرة هى “حتم ملء الوقت، طول الوقت بعمل له معنى” (ما أمكن ذلك)، لأن احتكار طاقات الحياة برمتها للدوران حول بؤرة الشكاوى ووصف الأعراض يصبح حائلا مستمرا دون العودة للحياة الطبيعية.

اترك تعليقاً

إغلاق