الوعى الشعبى فى مواجهة الفراق وكيفية استيعابه
قراءة فى النفس البشرية (من واقع ثقافتنا الشعبية)
الموال:
البـِينْ عملنى جمل واندار عمل جمال،
ولوى خزامى وشيلنى تقيل الاحمال،
أنا قلت يا بـِينْ والله الحـِمـْل ما ينشال.
قال: رق الخطى يا جمل وامشى على مهلك،
دا كل عقدة لها عند الكريم حلال.
يقول صلاح عبد الصبور (ليلى والمجنون): يأتى من بعدى من لا يتحدث بالأمثال.
ويقول صلاح جاهين (لست أدرى أين؟): ”إفعل أى شىء تقرره، وستجد مثلا يبرره”.
وإلى درجة أقل يقوم الموال (الشعبى)، وخاصة المرتجل منه،، بنفس الدور وقد يعاود من يتغنى بالموال الخروج عن النص، وهذا مسموح به بل ومطلوب كدليل على نوع راق من الديمقراطية وضعف الرقابة الوصية على وعى الناس النشط الذى يسمح بأن يظل يخرج ناقـلو الموال على النص حتى يتناسب مع حاجة الناس فى زمن بذاته، فيبقى ـ بعد التعديل ـ ويخلد لفترة، ليسجل هذه الحاجة، أو تلك الرؤية، فيصير تاريخا بالمعنى الذى أشرت إليه حالا.
وموضوع البين (الفراق) من المواضيع الشديدة الأهمية اللازم دراستها لفهم الإنسان والإلمام بتركيبه النفسى، واحتياجه إلى الآخر ونوع تفاعله مع هذا الآخر، يبدأ ذلك منذ الفترة الرضيعية، وما يسمى الاكتئاب التعلـقى فى سن الرضاعة وقلق الانفصال بدءا من سن الطفولة المبكرة، هو بعض المظاهر المرضية التى وصفت باكرا، وظلت لها أهميتها المحورية فى فهم العلاقات الأساسية فى التكوين البشرى، بل إن صدمة الولادة (أوتو رانك) يمكن أن تشير إلى الفراق البدئى منذ لحظة التواجد فى هذه الحياة كائنا منفردا، ويقابلها ما يسمى ”كآبة النفاس” التى تصل نسبتها إلى أكثر من 60 % عند كل الأمهات عقب الولادة مباشرة (أسبوع إلى إثنين)، كل ذلك امتد للتأكيد على محورية علاقة الإنسان بالآخر(الموضوع) حتى تكونت مدرسة “العلاقة بالموضوع” للتأكيد على جوهرية حضور ”الآخر” لاكتمال الوجود البشرى
ولا تـعرف قيمة الآخر عادة إلا بعد اختفائه، يحدث هذا بشكل مؤقت، أو دائم، متكرر، أو مفاجئ، إلى غير ذلك من الاحتمالات، ويتجلى هذا الاختفاء: بالموت، أو الهجر، أو الاستقلال (نموا أو غير ذلك)، أو الهجرة، أو الاختلاف أو التخلى أو بأى جمع بين أى من ذلك ..إلخ.
وتفاعل الفرد لهذا البعد يحتاج إلى عمق أكثر من مجرد رصد الاكتئاب، أو القلق أو البحث عن التعويض (مثل السخف القائل: قالوا أحبّ غـَدًا تـَنـْسـَى هوى أمـِسْ)،
وأغانى أم كلثوم بالذات، التى لا بد أن كثيرا منها كان يصاغ بوحى مما غلب فى ثقافتنا الحاضرة يدور حول هذه المسألة بشكل أو بآخر (البـُعد، البـَيـْن)
ونحب أن ننبه إلى أن البـَيـْن هو أقرب إلى البعد، منه إلى الانفصال أو الهجر.
نرجع إلى نص الموال:
البـِينْ عملنى جمل واندار عمل جمال،
ولوى خزامى وشيلنى تقيل الاحمال،
أنا قلت يا بـِينْ والله الحـِمـْل ما ينشال.
قال: رق الخطى يا جمل وامشى على مهلك،
دا كل عقدة لها عند الكريم حلال.
نقرأ الموال، ونحن نحاول طرح تساؤلات تقول:
كيف يكون البعد هو الذى فرض فعل الصبر (جملا) أو ساهم فى التأهيل لذلك (عـَمـْلـْنى)؟
وأيضا كيف أن هذا البعد نفسه هو الذى حاول أن يرتقى بالصبر إلى التحمل الرقيق بفضل تعهده له ورعايته (واندار عمل جـَمـّال).
ثم كيف أن الاستمرار بهدوء واثق متألم (رِقّ الخطى، وامشى على مهلك)، هو الحل؟
وكيف أن الحل ليس مجرد تعويض أو اعتماد جديد، ولكنه وثوق في: الآتى، وفى ”الكريم” سبحانه، وفى الوسيلة؟
هذا وصف لنوع من الفراق خاص، وهو راق، وهو متكامل، فبدلا من الاقتصار على لوم الحبيب، والنحيب على فراقه، توجـَّه الموال بالخطاب إلى الفراق نفسه، وكأن التفاعل للفراق بالمعايشة الواعية هو الذى يخلق الصبر فى مواجهته (البين عملنى جمل) وجزاء ذلك أن يكون الفراق نفسه هو راعى الصبر (هو الجـَـمـّـال).
والحديث عن الصبر فى اللغة وفى الوعى الشعبى يعطيه قيمة أكبر من مرارة التحمل، ولوعة الأسى، والرعاية التى قدمها ”البين” هنا، ليست من قبيل التسكين السطحى، بقدر ما هو نوع من الترويض ضد السخط والاحتجاج العشوائى (الاحتجاج على من؟)، ومن يعرف كيف يـُخـْزَم الجمل من أنفه حتى تصبح أى شـَـدَّة شديدة الإيلام تحول دون شطحه أو هياجه، يستطيع أن يدرك قيمة استعمال تشبيه الخـُـزَام هنا، فمن أعظم ما يجعل هذه الخبرة فائقة ومفيقة فى آن: عمق الوعى بها، ذلك أن حيل الإنكار فى صور الاستهانة بآثار الفراق أو البعد، أو فى صورة النسيان، أو ادعاء التحمل العابر، هى حيل تسكينية مؤقته، أما الوعى بألم التحمـّل (الخزام)، وضرورة عمق الدراية بما جرى (شـَـيـِّـلـْنى تـِـقـِـيل الاحمال)، فهو قمة استيعاب الخبرة.
وأيضا: فإن الوعى وإعلانه وقبوله هو درجة من النضج، على الرغم من الألم، وهذا هو الحل الأفضل، إن أمكن، بدلا من ادعاء شجاعة تفوق قدرة الإنسان، وتخزن خبراته فجة مجهضة .
لكن للألم حدود، فماذا يعمل البـُـعـْد (بعد أن أصبح جمالا) “الجمال” للجـَمَل الذى أعلن بشرف الألم عجزه عن حمل ما لا يحتمل (الحـِمـْل ما ينشال)؟ يقدم الجـَمـَّال للجـَمـَل الحل الحياتى/البشرى الرائع: الزمن، والمثابرة الواثقة المنتظمة، ويستعمل الموال فى ذلك كلمة من أغرب ما ينتظر فى هذا الموقع “رَقّ”، فنحن نعرف الرقة فى الحديث وفى المعاملة وفى العتاب وفى التأدب الحقيقـِى والتأدب الزائف، لكنها صفة غير مألوفة أو متواترة فى وصف “الخـُطـَي”(رق الخطى)، فليس المطلوب فقط أن يكون السير وئيدا، ولكن أن يكون ـ أساسا، وقبلا، ـ رقيقا (1) ويبدو أن هذا التوجه قد تطور أقل عمقا وأسهل رسالة بالقول الأحدث “هَـدِّى اللعب”، لكن المقارنة بين “رق الخطى، وهــدى اللعب”، لا يحتاج إلى تعليق.
التوقف عند الحدث، جمود وتضخيم للحدث، لكن الزمن: الملىء بالحركة الارتقائية الرقيقة، هو الذى يجعل من البين هنا ـ حدثا دافعا نحو “الآتى”.
يقول المثل العادى “كل عقدة ولها حلال”، فماذا أضاف الموال هنا بتداخل “عند الكريم” بين العقدة وحلالها؟
الموال الحالى يضيف إضافة دالة حين يوجه الاعتمادية إلى القوة الأعظم، الله سبحانه وتعالى، القوة التى تدير هذا الكون برمته، وبالتالى يظهر الحل من خلال الثقة بالحياة وبقوانينها، وبقدرة خالقها سبحانه على تعهد استمرارها، ليس باستسلام قدرى غافل بقدر ما يتم ذلك بالوعد، بأن ثمَّ حلاَّلاً لكل عقدة، وكل ألم، وكل بعد، وكل هجر، وسواء كان هذا الحل هو صبر الجمل على خزامه، أم حكمة الجمـّال (قدَر الفراق)، أم كلاهما، فهو يحتاج إلى التكامل مع قانون الرحيم الأعظم (2).
[1] – لعل هذا أقرب ما يكون إلى قول الخيام :
فامش الهوينا إن هذا الثرى من أعين فائقة الاحورار
[2] – ولعل هذا ما يقابل أيضا قول الإمام الشافعى :
ولرُبٌّ نازلةٍ يضيق بها الفتى * ذرعاً وعند الله منها المخرجُ
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها * فُرجت وكان يظنها لا تُفرجُ