الصحة النفسية والإنسان المعاصر
الصحة ليست مجرد الخلو من الأعراض التى نكرر تسميتها وكأنها مبررات قعود، وليست علامات عجز، وإنما هى تتحق بالقدرة على استيعاب معنى المعاناة ومسئولية الرؤية.
إن منظمة الصحة العالمية تؤكد أن مجرد الخلو من الأعراض ليس كافيا لأن نصف إنسانا ما بأنه صحيح (نفسيا أو بدنيا). وهى تؤكد على المعنى الإيجابى للصحة عامة، وتقرر أن ما يسمى ‘نوعية الحياة’ هى التى يمكن أن تميز الصحيح من العليل.
فما هى نوعية الحياة التى يمكن أن يتصف بها الإنسان المعاصر ليكون صحيحا نفسيا؟
سوف أكتفى بذكر عينات لخطوط عريضة تنفى هذا الوهم القائل “دع القلق وابدأ الحياة”، ليحل محله الوعى المجاهد “استوعب القلق واقتحم الحياة”. ومن ذلك:
أولا: يكون الإنسان المعاصر صحيحا نفسيا بقدر ما يتمكن من تحمل مسئولية المعلومات المعاصرة، من ناحية الانتقاء والاستعمال على حد سواء.
ثانيا: يكون الإنسان المعاصر صحيحا بقدر ما يحافظ على مرونة الحركة بينه وبين الناس، بينه وبين الطبيعة، بينه وبين ربه سبحانه وتعالى. ومرونة الحركة تعنى الحوار والتصالح والقدرة على التغيير المتبادل فى آن.
ثالثا: يكون الإنسان المعاصر صحيحا نفسيا بقدر “إيجابية موقفه من الزمن”، بمعنى حرية التعامل مع الزمن ذهابا وجيئة، وعلى مستويات مختلفة، وهذا ما يقابل حركية طبقات الوعى معا فى اتساق الإيقاع الحيوى فى تبادل النوم واليقظة، وتبادل الاستيعاب والإبداع، وتبادل الكمون والانطلاق، وتبادل الحل والترحال، بحيث يصبح الحاضر المتحرك حاويا للماضى والمستقبل معا فى إيقاع دائم متجدد.
رابعا: يكون الانسان المعاصر صحيحا نفسيا بقدر ما يصبح الوجه الآخر للعقل جزءا من وجوده، بمعنى أن الصحة ليست هى فرط التعقل وإحكام ضبط الداخل، وإنما هى القدرة على التكامل مع الوجه الآخر للوجود بالسماح بالتناوب المرن، والامتداد فى يقين واعد.
خامسا: يكون الإنسان المعاصر صحيحا نفسيا بقدر ما ينجح فى مصاحبة الموت حالا واقعا رائعا. فالموت – بالمفهوم الأحدث، وبالمفهوم الإيمانى الحقيقي- ليس سلبا للحياة، لكنه واقع يعمق معنى الحياة “الآن”، حتى نلقاه بإذن الله.
سادسا: يكون الإنسان المعاصر صحيحا نفسيا بقدر ما يرعى ما وصله من معارف كقاعدة إنطلاق إلى ما لا يعرف (الذين يؤمنون بالغيب).
سابعا: يكون الإنسان المعاصر صحيحا نفسيا بقدر ما يتمتع به من حرية واعية، وليس بقدر ما يتصايح حوله من ديمقراطية مظهرية.
هذه مجرد عينات قد تكون مجرد دعوة للنظر والمراجعة والمواجهة معا.