fbpx

الاكتئاب والآخر 

لا‏ ‏توجد‏ ‏إرادة‏ ‏بالمعنى ‏الحقيقى ‏إلا‏ ‏فى ‏حضور”‏آخر” ‏موضوعى ‏ماثل‏ ‏تتم مواجهته والتفاعل معه على نفس المستوى من ‏مواجهة‏ ‏الوعى ‏الفاعل (بمستوياته المتعددة).

 إن ‏‏الاختبار ‏الحقيقى ‏لفعل‏ ‏الإرادة‏ (‏الحرية‏) ‏لا‏ ‏يكون‏ ‏فى ‏فراغ‏،

يسرى هذا حتى على من يعلن حريته بانسحابه ‏ عن‏ “الموضوع” ‏(الآخر/الواقع) كلية‏، مثل الفصامى (السلبى) الذى يبدو وكأنه ‏قد‏ ‏تنازل‏ ‏فى ‏واقع‏ ‏الأمر‏ ‏عن‏ ‏حقه‏ ‏فى ‏أن‏ ‏تقيـَّـم‏ ‏اختياراته‏ ‏بميزان‏ ‏حضور الآخر فى وعيه، إلا أن النظرة التالية تـُظهر كيف أن الآخـر (الواقعى) قد حضر عند الفصامى بشكل جعله لا يقبله احتجاجا، فاحتد عليه انسحابا، وهذا نوع من “تأكيد الحضور بالغياب، فالتغييب”، بما لا ‏يتنافى ‏مع‏ ‏فرضنا‏ ‏الأساسى ‏الذى ‏يشير‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏المجنون (بدءا بالفصامى) قد ‏اختار‏ ‏أن‏ ‏يسلب‏ ‏نفسه‏ ‏حق‏ ‏الاختيار‏.

‏ ‏البارنوى (المجنون) ‏الذى ‏ألف‏ ‏لنفسه‏ ‏عالمه‏ ‏البديل‏ ‏عن‏ “الآخر” (الواقعى أيضا)، أو اختزل الآخر إلى مصدر تهديد أو وعيد، باعتباره خطرا‏ ‏على ‏تفرده‏، ‏هو‏ ‏أيضا‏ ‏يمارس‏ ‏إرادة‏ ‏جزئية ذاتية‏ ‏منغلقة‏ ‏حتى ‏لو‏ ‏تجلت‏ ‏فى ‏أفعال‏ ‏توحى ‏باختيار‏ ‏حاسم‏ يؤكد استبدال الآخر بآخرين من صنعه، أو من ذخيرة داخله وهم عادة ملاحِقُون مطارِدون له، معقبون على أفعاله، موجهون لسلوكه، برغم أنهم ليسوا إلا بعض  داخله. ‏

تتجلى ‏الإرادة‏ ‏الحقيقية‏ المرتبطة تمام الارتباط بحضور الآخر فى الخارج وفى الوعى‏ ‏فى ‏موقف‏ (‏مأزق‏) ‏الاكتئاب‏ ‏الأصلى (‏البيولوجى‏/‏المواجِهى‏) كما ذكرنا حالا: ‏حيث‏ ‏يعتبر‏ ‏حضور‏ “الآخر” ‏‏- ‏ ‏فى ‏الواقع‏ ‏والوعى ‏معا‏- بكل‏ ‏موضوعيته‏ ‏وتحدياته‏ ‏هو‏ ‏المسئول‏ ‏عن‏ ‏ظهور هذا النوع من‏ ‏الاكتئاب‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏، هذا يختص بالحديث عن الاكتئاب الحيوى الحركى النشط على مسار النمو والمرض، وهو ما يمثل تجليات “الموقف الاكتئابى” (جانترب)  فى المرض (والصحة) أثناء النمو،

 هذا الاكتئاب هو إنسانى فى المقام الأول بل يكاد يكون خاصا بالإنسان دون سائر الأحياء (الوعى والوعى بالوعى فى حضور آخر)، ‏ذلك‏ ‏أن ممارسة هذا الحزن اليقظ يتطلب من صاحبه أن‏ ‏يحافظ‏ ‏على ‏علاقته‏ ‏بالآخر‏، بالتنازل النسبى عن حريته، فهو ‏لا‏ ‏ينسحب‏ ‏من‏ ‏مواجهته‏، ‏ولا‏ ‏يلغيه‏، ‏ولا‏ ‏يستبدله، ‏ولكى ‏يحقق‏ ‏ذلك‏ ‏فإنه‏ ‏يختار‏ “المجال” ‏الذى ‏يحافظ‏ ‏على ‏هذا‏ ‏الوعى ‏وهو‏ “واقعية‏ ‏العلاقة”، ‏وهو‏ ‏إذ‏ ‏يفعل‏ ‏ذلك‏ ‏يجد‏ ‏أن‏ ‏عليه‏ ‏أن‏ ‏يتحمل‏ ‏الوعى ‏بكلية‏ ‏الآخر‏ ‏وبمخاطر‏ ‏الاقتراب‏ ‏منه‏ مختلفا ‏ككل‏ ‏موضوعى، فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ هو يفعل ذلك دون يقين باستمرار هذا الحضور، فيعايش ‏احتمال‏ ‏أن‏ ‏يهجره‏ ‏هذا‏ ‏الآخر‏ طول الوقت، ‏فيتولد هذا الاكتئاب الحيوى أكثر إيلاما وحيوية، الأمر  الذى يعلن حركية الحرية/الإرادة بشكل عميق متجدد‏.

 الوعى ‏بالآخر‏ ‏ـ‏ ‏كموضوع‏ ‏حقيقى ‏ـ‏ ‏مع‏ ‏اختيار‏ ‏الاستمرار‏ ‏معه دون اختزال أو إجمال، هما‏ ‏العاملان‏ ‏الأساسيان‏ ‏اللذان‏ ‏يولّدان‏ هذا الحزن الأساسى

اترك تعليقاً

إغلاق